قصة قصيرة بعنوان” فى المقهى “
بقلم / مروان الملا
وسط أرجاء مقهى من طراز قديم , بجداره العالى المنقوش الذى تملأه رسومات و صور لمطربين قداما و مناظر طبيعيه أخرى , يتغلب عليه اللون البنى الذى يزيد المكان هدوءًا و رونقًا خاصةً بعد لمعانه فور سقوط أشعة الضوء الصفراء من مصابيح وُجدت فى السقف من فوقه كنجوم إعتلت السماء لتزينها و تنيرها , تحلق فى سماء هذا المكان ترانيم و أصوات تزغزغ الأذن و تسكرها , أصوات من مختلف الأغانى يتخللها نغمات عود أو ناى يزيد السكر و يغيب الذهن , طاولات متراصه بنظام معين , إتخذتُ من إحداها مجلسًا إعتدت عليه , مجلسًا فى أخر المقهى على زاويةٍ يمنحنى رؤية واضحة للمكان أجمع و للجالسين ؛ كى أستمتع بهوايتى المفضله و أراقب من حولى جيدًا ؛ تحركاتهم , تعابيير وجوههم , حركات أناملهم و عضلات وجوههم الصغيره لتجتمع ككلمات تراصت لتظهر جملة وحدى أنا أفهمها , جملة من حبر سرى , أسمعها بعينى ..
بدأت لعبتى بشاب دخل للتو أمامى , متوسط الطول و العمر أيضًا , رفيع الجسد .. يبدو عليه أنه من طبقه متوسطه أيضاً , يجلس , لحظات و يأتيه نادلًا برداءٍ أكرهه , قميص أبيض و ستره من قماش أسود يتخلل ياقته بعض نقاط لامعه مناسبه لسهره فى ذلك المقهى و تتوسط عنقه ربطه حمراء اللون أعلاها شفتان مدت ذراعيها كى تذور الأذن جارتها وضحت من خلفها أسنان متراصه بيضاء بدأت فى الحديث معرضه خدماتها , لينهى الشاب ذلك المشهد بطلب لم أجهد أذنى فى سماعه فرحل .
لحظات و هو جالس وحيدًا , رُسمت على وجهه ملامح تعبر عن الإمتعاض من حاجب منتصب و عين صارمه و شفاه مغلقه , فى كل تارة تتحرك عيناه تجاه ساعة تتخذ من يده مسكنًا لتلتف عليها .. قدم ترتطم على الأرض فى ضربات متفاوته و جمره تقاد بالأعلى .. يبدوا أنه فى إنتظار حبيبته أو ” رفيقة ” عشقها سراً يجد فيها متعته , يشرب رحيقها و تذبل ثم يتابع كؤوسًا من بعدها .. هاتف يرن و أصابع تتحرك تجاهه و يبدأ بالحديث ليطير ما فوقى من سحابة أفكار تكونت , من الواضح أنه صديق يريد أن يأخذ منه مالًا, كم أنا غبى ؛ الأمر واضحًا من البداية فملابسه وُبرت من كثرة الإستخدام يبدو أنه سيُدان ليبتاع غيره ..
أشحت بنظرى لأتابع غيره , لتقف عيناى على طاوله تجلس عليها فتاة بمفردها تشيح بنظرها فى الأرجاء و لكن للحظات سار فى جسدى يقينًا بأن تلك النظرات كانت لى فور دخولى و لكنى لم ألحظ ذلك , بعد أن رأت عيناى متربصةً بها أشاحت بنظرها نحو هاتفها تمسكه و تبتسم و كأنها تضحك على شئ أخر و شرعت أصابعها تتخلل خصلاتها المتدلية تداعبه فى محاولة أن تلفت نظرى و لكن لا جدوى , تتبعتها بعيني أتفحصها , ظنّت أنى أُعجبت بها و لكن على العكس كنت أشمئز من الذى أراه ؛ فتاه عشرينيه ترتدى رداءً مايظهره يغلب ما يخفيه و فى أصابعها خواتم مختلفة و حول رقبتها البيضاء طوق رفيع .. و شعر كستنائى متدلى تداعبه بأصابعها .. و صديقة أتت من العدم تقف معطيةً لى ظهرها ناظرة لصديقتها الجالسه و كانت ترتدى لباسًا أكثر إزدراءً من الأخرى و إن كاد يشبهه , و لكنى عندما رأيتها بسروالها الذى إنخرط كفنان داهمه العمر فى رسم أدق تفاصيل جسدها , لم يمض كثيرًا حتى إلتفتت و تيقنت أن هذا مجرد إلهاء عن وجه يشمئز له الناظرين ..
أشحت بنظرى ممتعضًا لأرى أمامى فتاة أخرى على النقيض ملاك و نزل إلى الأرض يشعها بنور وجهها الأبيض الذى يُزيَّن ببقاع حمراء على وجنتيها فور تحرك شفتا فتى جالسًا أمامها يحدثها و أنامله تلمس بشرة يدها برفق لتتبعا بطن يده لتحتويها كاملة , على وجهه رسمت ضحكات و لكنها بالفعل رُسمت ؛ الكذب يتخللها و لسانه معسول بالسم الذى تسمعه هى لتفرح و تبنى أحلامًا , أحلامًا فقدت مشيمتها منذ أيام لتعد عمرها الأن بأنامل لا تستطيع الحراك و تبحث عن صدر أم تحملها و تبكى بعد أن أخبرها الأطباء بأن عمر طفلتها معدود .. أشحت نظرى بعيدًا من الأسى , صَعُبَ علىّ أمرها , تسللت الشفقه إلى قلبى شددت عزمى إلى أن أحذرها و لكن منعنى عقلى من هذا الأمر كتمت غضبى و سكنت ثانية .. أشعلت سيجارةً أخرج فيها غضبى , لحظات مرت و وقعت ضاحكًا أمام شاب جالس أمامى , جالسًا منذ فتره و لكنى لم ألحظه إلا الأن , رداء مهرول و شعر لم يمسسه مشط تقريباً منذ عام .. ما الذى أتى به إلى مثل هذا المكان ! كيف لهم أن يسمحوا لمثل هذا الفتى أن يجلس بجوارنا و أمامى أيضاً , فتى فقد من المجتمع تعاليمًا و تعليمًا , مسكت شفتاى من الهروب بصعوبة بالغة , ألم يخبره أحد من قبل أن نظارته السوداء تلك يرتديها الناس فى الشوارع تحت الشمس ليس فى وسط مكان مغلق ..
مللت و قررت أن أختم جلستى برجل أصابة الشيب و يبدو علية الثراء الفاحش , جالس ببذلته الراقية الثمينه و ساعته من ماركة ” ROLEX ” و قميص أسود قاتم و حذاء لمعانه يكاد يعكس وجه الناظر إليه , جالس بهدوء يتابع عمله على حاسوبه الخاص أمامه و تقطعه إتصالات هاتفيه من الواضح أنها لإدارة أعماله مما يظهر على وجهه من تعابير توحى بالحزم و الصرامه , و يبدو أن هناك أمر ما فى العمل لا يرضيه ؛ ظهر ذلك بعد أخر إتصال تلقاه بعد أن اصابته جمره فى وجهه و زاد صوته فى الأرجاء و يد مرتجفه من الغضب لينهى مكالمته و يلاحظ توقفها و كأنها فى شلل تام يتابعها بحَبّه من علبة دواء أخرجها ليهدأ قليلًا ؛ فجراء سنه لا يستطيع التحرك بلا دواء ..
لحظات و أنهى قهوته و أخذ حاسوبه و أشيائه و رحل , تبعته بعينى للخارج وجدت بإنتظاره رجل ببذلة تبدو غريبه و بجوارة سيارة , يبدو أنه السائق الخاص به كان فى إنتظاره فى الخارج ..
شبع عقلى من التفاصيل و أنهيت كوباً من الشاى وُضع أمامى من قبل الشاب ذو الرداء المعهود لأرفع يدى مشيراً له بحركة تعنى الحساب , ليبتسم إبتسامته البارده تلك و لحظات و يتحرك تجاهى ليقف أمامى مقدماً ورقة الحساب داخل مجلداً أسود ملئ بالنقوش , وضعه أمامى و لَمَّ يده أمام صدره و مازالت تلك الإبتسامه مرسومه , يبدو أنه يستلمها مع رداءه السخيف ذلك , رمقت السعر أمامى و لكن وقف أمام عينى رقم لم يكن واضحاً , وضعت الورقة أمامى على الطاوله و أشرت له بإصبعى محدثا إياه ” دا رقم 7 ؟ ” ليتدلى برقبته و يدقق النظر و يعيد إبتسامته ثانية ” لأ 8 ” .. إحترت كيف و أنا أراها 7 , كررت السؤال ثانيةً آملاً فى رد آخر و لكن بملامح غلبتها الدهشه ” لا حضرتك 8 ” ..
أقرأ ايضا :
** السرقات الأدبية والفكرية.. سرقة المخخه