قصة قصيرة بعنوان ” لم الرحيل !! “
بقلم / مروان الملا
فى آخر غرفته وُضع مكتباً , إتخد أمامه كرسياً خشبىّ , جلس و أراح جسده ثم أطلق تنهيده تبعها بصمت , ظلت تتحرك عيناه من مقلتيها فى أرجاء الغرفه إلى أن أنتهى بحركة يده اليمنى تقترب من درج مكتبه الأوسط ليفتحه و يخرج منه مجموعة أوراق و قلم , يحملهما برفق و يضعهما على مكتبه , على يمينهم أباجورة تشع ضوءاً أصفراً فى المكان من حولة , يُقَرّب يده منها ليقلل من شدتها قليلاً ليخرج منها شعاعاً يكفى لإضائة ما أمامه من ورق و صورة مقلوبة على وجهها بجوارة – طالما أحب الضوء الخافت – صمت قليلًا و على وجهه علامات الجمود تخفى خل بقلم / مروان الملا
فها عقلًا أُجهِدَ من التفكير و الترتيب , لحظات و باشرت يمناه بالتحرك ؛ لتمسك قلمًا وُضِع منذ لحظات أمامه , لم يكن يعلم كم مر من الوقت لحظات أم سويعات؟ ؛ فعقله إنتقل يفكر فى وحدته , فى ملكوته الخاص , رجع للخلف و أومأ رأسه يفرغ ما بداخلها و يعيد ترتيبها من جديد إلى أن إشتد معصمه على القلم شارعاً فى الحركه , على يساره يده الأخرى تشد أزرها على تثبيت الورق .. تتخذ يمناه فى حركات متناغمة تشرع فى نقل كلماتٍ باتت فى عقله يتمنى لو يسعه جهده أن يطبعهاعلى وَرقِه , كلمات تُكتب و يقف القلم مشلولًا ليجن عقله و تمسك يسراه الورقة عاصرةً ملقياها من خلفه , فى طريقها إلتحمت مع عصا النور من جواره فإذا النور يعكس وجهه , وجه سكنته نبتات شعر فات على نبوتها عامين من فوقها عينان فقدت القدره على صلب جفنيها لتتيح الرؤيه لما يسكن خلفها من كرة بيضاء تتخللها الحمره و خط كالح السواد من أسفلها .. إستجمع شمله و أعاد النور لوضعه ثانيةً و بدأت يده بالإرتعاش قليلاً و لكن سرعان ما هدّأ من رعشتها و ثَبّتها على قلم يحاول جاهدًا الصمود تحت قوة صاحبه .. و بدأ بسطر كلماته ..
” أتتذكرينى ..؟ .. كررت هذا السؤال مراراً و لم أجد إجابة أسمعها , تمنت أذنى أن يتخللها صوتك يداعبها ” نعم أتذكرك ” .. و لكن .. أين أنت الأن .. بحثت عنك آملاً فى أن ألقاك .. و لكن ؛ لا أجدك .. أتعلمين , أعلم أنى لن أجدك ثانيةً .. كيف لى أن ألقاك و أنت لست هنا .. لِمَ لَم تعودى مثلما أخبرتينى مسبقاً ؟ .. طالماً أخبرتينى أنك لن ترحلى .. لم الرحيل إذاً ؟ أضايقتك بتصرفاتى الصبيانيه التى طالما أغضبتك منى ؟ .. و لكنك دائمًا ما تخبرينى أنى مهما فعلت لن ترحلى .. لم الرحيل ؟ … أتتذكرين .. أتتذكرين حينما أغضبتك آخر مره و ظللت طوال اليوم أحاول إرضائك إلى أن إنتهى بى الحال فى منتصف الليل واقفًا أمام شرفة غرفتك أغنى بصوتى القبيح الذى طالما أخبرتينى أنك تحبيه .. تذكرين كيف كنتِ ؟ كنت كصورة قمر وضعت على الشرفة , عجب ناظرى وقتها عندما رئاكى .. كيف بالقمر أن يتخذ من الشرفة مجلساً , كيف له أن يترك السماء فارغةً لا يشعها بضوئه الأبيض الهادئ الذى ينتظره الأحبه .. أتتذكرين ؟ أتتذكرين رقصتى يومها , عندما تمخترت بقدمى و حاولت تقليد رقصتك المفضله محركاً رأسى و يداى بالتناغم على اليمين و اليسار.. كنت أشبه بدجاجة تخرج كأكأتها حول طعامها .. أتعلمين .. لم أكن أبالى بشكلى أو بضحكات العامة المارين من حولى .. كانت عيناى منصبّه على وجهك ؛ ما أن رأيت ضحكتك تملأ الأرجاء إذ بقلبى يرقص معى و شرعت بالغناء بصوت أعلى يزداد مع إزدياد ضحكاتك .. تتذكرى ؟ تتذكرى ماذا فعله جارك العجوز الذى يتميز بصوته الجهورى الذى كان يتلذذ بالسباب اللعين لى , الذى دومًا ما أيقظ الجيران من حولك على سبابه لى … لم أكن أبالى .. لم أكن أبالى صدقينى , كانت تكفينى ضحكاتك تلك .. أتتذكرين ؟ . أتتذكرين يومها بعد أن رحلت و حادثتينى ماذا قلتى ؟ … أتذكر كلماتك و صوتك .. ” لن أتركك مهما حدث .. لن يطيل حزنى و أنت بالجوار .. يكفينى رؤيتك ” … لم رحلتى إذن … لم رحلتى و أنت تدركين حبى لك … كنت تشكين بعلاقة تدور بينى و بين تلك الفتاه التى إنتقلت الى الحى من جديد .. أخبرتك مراراً أنه لا يوجد شئ بينى و بينها .. لا أنكر .. لا أنكر أنى كنت أحب إستفزازك لإثارة حمرة وجهك و عصبيتك المعهوده و غيرتك التى كانت تقتلنى ضحكًا و حبًا .. و لكنى أقسم لكى بأنه لا يوجد شئ بينى و بينها .. لم رحلتى … ”
وقف عن الكتابه .. عجزت يده عن الكتابة .. أشار بنظره إلى صورة مقلوبه أمامه , أمسكها و قربها إلى بصره .. فتاه بيضاء .. شعر متسرسل أسود بجانب وجهها البراق يتربع على كتفها بإلتواءات مدت نهايتها لتغطى ذراعاً غلب نصفه رداء أصفر تتخلله ورود كثيره كأن الربيع خُلِقَ فيه بعد أن إرتدته .. وسط وجهها أنف صغير تزينه من الأسفل شفتان ملأتهما الحمره و كنزتان كثمرتى توت بلغ طيبهما , و يتوج أنفها من الأعلى عينان ذو عدسات بنيه تشع لمعانًا جراء أشعة شمس سقطت عليها أثناء إلتقاط الصوره .. مسح عليها بإصبعه يداعبها و أسفل إصبعه فى زاوية الصورة شريط أسود مائل .. وضعها أمامه و نظر ثانيةً إلى الورقة من أمامه .. ظهر على وجهه شبح إبتسامة سرعان ما إختفى و دمعة قررت الإنتحار و الخلاص من صراعها على البقاء فى عينيه , لتتخذ أنفاسها و تقفز و كأنها تريد أن تسألها هى الأخرى بسقوطها فوق كلمة إختارتها لتكون أرضا تُدفَن فيها ” لم الرحيل ” .. إلى أن يجمع شمله ثانيةً فى الكتابة ..
” لم الرحيل يا حبيبتى .. لم إتخذك الموت و تركنى .. دائماً ما أخبرتينى بأن الموت لن يبعدنا .. بل أن الموت هو بوابة زفافنا لنعيش سويًا فى الفردوس .. لم يكن فى حسباننا رحيلك عاجلًا … لم العجله .. أسهل عليك الرحيل و تركى هكذا .. ذهبتى و أخذتى معك روحى و تركتى جسدًا هامدًا بلا حراك .. بلا رغبة للحياة بدونك .. فكيف يحى و بحروف إسمك كُتبت الحياه .. أنتظرك .. أدعوه أن يقبض روحى لأكون بجوارك ؛ فالتعب تخلل جسدى .. لا أجد راحتى بدونك .. العالم قبيح للغاية .. لا أجد مأوى أهرب إليه و أفرغ فيه همى سوى حضنك .. يداك التى تتحرك أناملها الصغيرة على وجههى تعيد النضرة فيها ثانيةً .. نَفسَك الدافئ الذى يخبط فى وجههى يشعرنى بك .. يحيينى .. أتنفسه .. شفتاك .. شفتاك التى تتحرك لتداعب أذنى بصوتك العذب .. ” لا تقلق إننا سوياً .. لن يحدث لنا مكروه .. فأنا بجوارك و أنت بجوارى ” .. ”
فقد قدرته على التحكم و إنفجرت عينيه بالبكاء بعد صراع على الصمود .. أبعد كرسيه و أصلب طوله بهزال .. إلى أن وقف أمام جدار الغرفة ليعطى له ظهره و ينساق عليه إلى أن تنتهى رحلته بالقرفصاء على الأرض و يلم يده حوله محتضناً نفسه ناظراً لأعلى , لا يعلم إلام ينظر و لكن عيناه تلمع و تزين بدموع حملت حقائبها و عزمت الرحيل على وجهه .. دفس رأسه بين ذراعيه و بصوت متهدج لم يخرج منذ فتره ” لم الرحيل ” ..